علم أهل الحديث بأحوال وسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم
قال رحمه الله: [ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور] ولذلك مجرد أن يأتيهم أحد ويقول: النبي صلى الله عليه وسلم وقع له كذا أو حصل له كذا، فإنهم يكذبونه، لماذا؟ لعلمهم واطلاعهم على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله؛ ولهذا كتب كثيرة من الموضوعات في السير على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، بعض الفتوحات التي تروى في فتوح الشام و اليمن وغيرها لا يحتاج أحد من علماء السنة والسيرة أن يمحص ويدقق ليحكم أنها موضوعة، بل أول ما يراها يحكم أنها موضوعة؛ لأنه واضح أن فيها أموراً معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلها، ولم تكن في عهده صلى الله عليه وسلم؛ لدقة وشدة معرفتهم بأحواله صلى الله عليه وسلم، فيجزمون بأن هذا الشيء لم يكن ويردونه، بل ربما أخذ أو كان مما انتقد على بعض الثقات الأثبات في حديثهم أنه نقل أمراً وهو مخالف لما هو معلوم متواتر من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كاختلاف بعض الروايات مثلاً، مثل: متى كانت غزوة الأحزاب - الخندق - أو ما أشبه ذلك؟ فترد بعضها بناءً على المعرفة اليقينية القطعية بأحوال الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل هؤلاء الرجال، الأئمة المتحرين المتثبتين من وقائع حياته صلى الله عليه وسلم وكذلك حديثه، يقول: ما ليس لغيرهم به شعور، [فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً]. أي: لديهم من اليقين ما لا يشعر به غيرهم، فضلاً أن يكون معلوماً أو مظنوناً لديه، ثم قال رحمه الله: [كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم] فلو أنك قلت بيتاً من الشعر لـأبي العلاء المعري أو المتنبي وقلت: هذا البيت ذكره سيبويه في الكتاب ؛ فإن أي عالم من علماء النحو يقول مباشرة: هذا البيت لا يمكن أن يكون موجوداً في كتاب سيبويه ، ولو جئت إلى مسألة من مسائل النحو المتأخرة بعد سيبويه بمائة سنة وقلت: هذه المسألة ربما تكون في الكتاب ، يقول: هذه لا يمكن أن تكون في كتاب سيبويه، ويجزم بذلك؛ لأنه واثق، فقد عرف الكتاب وخبره، وعرف سيبويه ونقله، وكذلك الخليل بن أحمد ، وهو كما هو معلوم من أئمة اللغة، وكان أئمة اللغة الأوائل على مذهب أهل السنة والجماعة والحمد لله، مثل: الخليل و الكسائي و النضر بن شميل وغيرهم كثير، ثم بعد ذلك قع فيهم ما وقع، حتى أبو عبيدة صاحب مجاز القرآن لم يكن على مذهبهم، إنما المجاز عنده معنى من معاني القرآن وليس مجازاً بالمعنى الذي وضعه المعتزلة. فالمقصود: أن النحاة يعلمون أخبار أئمتهم من شدة قراءتهم وتحريهم لأخبارهم، وهكذا أهل كل علم، [وعند الأطباء من كلام بقراط و جالينوس ما ليس عند غيرهم]، وهما من أطباء اليونان ، فالأطباء من العرب ومن المسلمين حتى من المعاصرين الآن من كان لديه خبرة بهذا الطب وقلت له: هذا الكلام نقله بقراط ، أو قاله جالينوس ، يستطيع أن يجزم أن هذا الكلام لم يقله، ويستطيع أن يميز هل هو من كلامه أم ليس من كلامه؛ لخبرته في مجال الطب، وهكذا في الجغرافيا أو الكيمياء أو الفيزياء أو الهندسة أو أي فن آخر؛ ولذلك من عرف الفن، وعرف أهله، وتتبع أقوال أئمته، يستطيع أن يجزم بأن هذا ثابت، أو هذا غير ثابت، فنقول: فكذلك أئمة الحديث. أي: لا نأخذ كلامنا من إمام في البلاغة مثلاً، وإن كان في هذا الفن إماماً أو عالماً، فلا نأخذ كلامه في الحديث؛ لأنه ليس من أهله، فلا يصح أن يؤخذ كلام أهل الكلام في أهل الحديث ولو كانوا تقاةً صالحين، فكيف وهم المبتدعة المذمومون الذين توعدهم الأئمة بما توعدوا به، وردوا كلامهم؟ يقول: [وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك.. لعد ذلك جهلاً كثيراً] وهذا أمر معروف في حياة الناس، إذ إنما يسأل الناس بحسب ما يطلعون عليه وما يعلمونه وما يفقهونه، فلا يؤخذ كلام أحد منهم في غير مجاله وفنه كما ذكر من الأمثلة وهي واضحة.